بَابُ ذِكْرِ الْقَبْرِ وَالْبِلَى

بَابُ ذِكْرِ الْقَبْرِ وَالْبِلَى

بَابُ ذِكْرِ الْحَوْضِ                           

4266 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ (العبسي الكوفي، ثقة) قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ (محمد بن خازم الضرير التميمي الكوفي، ثقة)، عَنِ الْأَعْمَشِ (سليمان بن مهران (الأعمش) الكاهلي الكوفي، ثقة قارئ)، عَنْ أَبِي صَالِحٍ  (ذكوان السمان، ثقة)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْإِنْسَانِ إِلَّا يَبْلَى، إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا، وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ، وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

حكم الحديث

[حكم الألباني] صحيح[1]

«إسناده صحيح»[2]

شرح الحديث:

(قال) أبو هريرة: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس شيء من) أجزاء (الإنسان إلا يبلى) جملة يبلى خبر ليس؛ أي: ليس شيء من أجزاء الأنسان باقيًا (إلا عظم واحد) فإنه يبقى ولا يفنى، وهي أصلية، والاستثناء الثاني استثناء من الأول، (وهو) أي: ذلك العظم الواحد (عجب الذنب)

أي: عظم يسمى بعجب الذنب (ومنه) أي: وعليه (يركب الخلق) أي: خلق الإنسان (يوم القيامة).

قوله: "ليس شيء من الإنسان إلا يبلى … " إلى آخره، القضية جزئية بالنظر إلى أفراد الناس، ضرورة أن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء.

قوله: (إلا عظم واحد) هكذا في كثير من النسخ بالرفع، والظاهر النصب؛ لكونه استثناء من المثبت؛ والمعنى: يبلى من الإنسان كل شيء إلا عظمًا واحدًا، والظاهر أن يقرأ بالنصب، ولا عبرة بالخط في قراءة الحديث؛ كما صرحوا به (وهو) أي: ذلك العظم الواحد (عجب الذنب) - بفتح المهملة وسكون الجيم - أي: أصل الذنب، وظاهر الحديث: أنه يبقى ولا يفنى، قيل: هو عظم لطيف، هو أول ما يخلق من بني آدم، وآخر ما يبقى منهم؛ ليعاد تركيب الخلق المعاد عليه، وهذا هو الموافق لما روى ابن أبي الدنيا عن أبي سعيد الخدري: (قيل: يا رسول الله؛ وما هو؟ قال: مثل حبة خردل).

وقال المظهري: أراد بقاءه لا أنه لا يبلى أصلًا؛ لأنه خلاف المحسوس.

وقيل: أمر العجب عجيب؛ فإنه آخر ما يَخْلُق وأول ما يُخْلَق، الأول: بفتح الياء؛ أي: أنه آخر ما يصير خَلَقًا؛ والثاني: بضمها، ومنه يركب الخلق؛ أي: أنه تعالى يبقيه إلى أن يركب الخلق منه تارة أخرى، وعلى ما قاله المظهري: إنه يعيده أولًا؛ ليخلق منه تارةً أخرى. انتهى "سندي".

قال الحافظ في "الفتح" (8/ 552): قوله: "عجب الذنب" - بفتح العين وسكون الجيم -: هو عظم لطيف في أصل الصلب؛ وهو رأس العصعص، وهو مكان رأس الذنب، من ذوات الأربع، وفي حديث أبي سعيد الخدري عند ابن أبي الدنيا وأبي داوود والحاكم مرفوعًا: (أنه مثل حبة الخردل)

قال ابن الجوزي: قال ابن عقيل: لله في هذا سر لا يعلمه إلا الله؛ لأن من أظهر الوجود من العدم لا يحتاج إلى شيء يبني عليه.

ويحتمل أن يكون ذلك جعل علامة للملائكة، على إحياء كل إنسان بجوهره، ولا يحصل العلم للملائكة بذلك إلا بإبقاء عظم كل شخص؛ ليعلم أنه إنما أراد بذلك إعادة الأرواح إلى تلك الأعيان التي هي جزء منها، ولولا إبقاء شيء منها .. لجوزت الملائكة أن الإعادة إلى أمثال الأجساد لا إلى نفس الأجساد.

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: البخاري في كتاب التفسير، باب {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} (1)، ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ما بين النفختين.

فهذا الحديث في أعلى درجات الصحة؛ لأنه من المتفق عليه، وغرضه: الاستدلال به على الترجمة

 

4267 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ (بن جعفر أبو بكر الصاغاني، نزيل بغداد خراساني الأصل، وكان أحد الحفاظ الرحالين، ثقة ثبت)، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ (البغدادي إمام الجرح والتعديل، وقال الخطيب: كان إمامًا ربانيًّا عالمًا حافظًا ثبتًا متقنًا)، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ (الصنعاني أبو عبد الرحمن القاضي، ثقة)، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَحِيرٍ(أبي وائل القاص الصنعاني، وثقه ابن معين واضطرب فيه كلام ابن حبان)، عَنْ هَانِئٍ مَوْلَى عُثْمَانَ () قَالَ:

كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بكى حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: تَذْكُرُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَلَا تَبْكِي، وَتَبْكِي مِنْ هَذَا؟! قَالَ: إِنَّ  رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ" قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلَّا وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ" (1)

‌‌_________

حكم الحديث

·       إسناده حسن، هانئ مولى عثمان صدوق، وباقي رجاله ثقات. محمَّد بن إسحاق: هو الصغاني، وهام بن يوسف وعبد الله بن بحير: هما الصنعانيان.

·       حكمه: الحسن؛ لأن فيه عبد الله بن بحير وهو مختلف فيه، وكان الهانئ أيضًا مختلفًا فيه

·       [حكم الألباني] حسن

 

شرح الحديث:

أي: قال هانئ مولى عثمان: كان عثمان (إذا وقف على قبر) عند تجهيز الميت؛ أي: على رأس قبر أو عنده (يبكي حتى يبل) - بضم الباء الموحدة - من باب شد؛ أي: يبكي بكاء كثيرًا حتى يبل بدموعه (لحيته) بالنصب على المفعولية؛ أي: حتى يجعلها مبلولة من الدموع (فقيل له) أي: لعثمان: أنت (تذكر الجنة والنار ولا تبكي) عند ذكرهما؛ اشتياقًا إلى الجنة وخوفًا من النار (وتبكي من هذا) أي: من القبر؛ أي: من أجل خوفه، قيل: إنما كان عثمان يبكي عند القبر، وإن كان من جملة المشهود لهم بالجنة؛ لأنه لا يلزم من التبشير بالجنة عدم عذاب القبر، بل ولا عدم عذاب النار مطلقًا، مع احتمال أن يكون التبشير مقيدًا بقيد معلوم أو مبهم.

ويحتمل أن ينسى البشارة حينئذٍ؛ لشدة الفظاعة، ويمكن أن يكون خوفًا من ضغطة القبر؛ كما يدل عليه حديث سعد الدال على أنه لم يخلص منه كل سعيد إلا الأنبياء، ذكره القاري في "المرقاة" (1/ 355).

(قال) عثمان: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن القبر أول منازل الآخرة) أي: فهو أقرب شيء إلى الإنسان، ومنها: عرصة القيامة عند العرض، ومنها: الوقوف عند الميزان، ومنها: المرور على الصراط، ومنها: الجنة والنار.

(فإن نجا منه) أي: من عذاب القبر .. (فما بعده) من المنازل (أيسر منه) أي: أسهل من عذاب القبر وأهون؛ لأنه يفسح للناجي من عذاب القبر في قبره مد بصره، وينور له ويفرش له من بسط الجنة، ويلبس من حللها، ويفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها وطيبها، وكل هذه الأمور مقدمة لتيسير بقية منازل الآخرة (وإن لم ينج منه) أي: من عذاب القبر .. (فما بعده أشد منه) فشدته أمارة للشدائد كلها.

قوله: (وإن لم ينج منه) أي: لم يخلص من عذاب القبر، ولم تُكَفَّر ذنوبه وبقي عليه شيء مما يستحق العذاب عليه .. (فما بعده أشد منه) لأن النار أشد العذاب، فما يحصل للميت في القبر عنوان ما يصير إليه.

(قال) أي: عثمان: (وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيت) في الدنيا (منظرًا) أي: موضعًا ينظر إليه من الشدائد (قط .. إلا والقبر أفظع منه) من فظع - بالضم - ككرم؛ أي: أشد وأشنع وأنكر من ذاك المنظر، قيل: المستثنى جملة حالية، وهو موصوف حذفت صفته فتخصص بها؛ أي: ما رأيت منظرًا فظيعًا على حالة من أحوال الفظاعة قط، إلا في حالة كون القبر أفظع وأقبح منه، فالاستثناء مفرغ. انتهى "إنجاز الحاجة".

قال السندي: وحيث خصصنا بمنظر الدنيا اندفع ما يتوهم أن هذا ينافي قوله: (فما بعده أشد منه) على أنه يمكن الجواب إذا عمم بأنه أفظع من جهة الوحشة والوحدة، وغيرُهُ كالمسألة أشدُّ عذابًا منه، فلا إشكال. انتهى.

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: الترمذي في كتاب الزهد، باب (5) فظاعة القبر وأنه أول منازل الآخرة، وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث هشام بن يوسف، والحاكم في "المستدرك" في كتاب الجنائز، والبيهقي في "الكبرى" في كتاب الجنائز، باب ما يقال عند الدفن.

ودرجته: أنه حسن؛ لكون سنده حسنًا، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة

·       وفي الحديثِ: التَّرهيبُ مِن عذابِ القبْرِ.

·       وفيه: إثباتٌ لعَذابِ القبرِ ونَعيمِه.

·       القبرُ أوَّلُ منازلِ الآخِرةِ، وعذابُ القَبرِ ثبَت بنُصوصٍ مُتواترةٍ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد عَلِمَ الصحابةُ رضِيَ اللهُ عنهم هذا جيدًا.

 

4268 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ (العبسي الكوفي، ثقة)، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ(بن سوار المدائني الخراساني الأصل، قيل: اسمه مروان الفزاري مولاهم، ثقة حافظ رمي بالإرجاء)، عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ (محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث (بن أبي ذئب) القرشي العامري أبي الحارث المدني، ثقة فقيه فاضل)، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ (القرشي العامري المدني، ثقة)، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ (ثقة متقن)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "إِنَّ الْمَيِّتَ يَصِيرُ إِلَى الْقَبْرِ، فَيُجْلَسُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فِي قَبْرِهِ غَيْرَ فَزِعٍ وَلَا مَشْعُوفٍ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: فِيمَ كُنْتَ؟ فَيَقُولُ: كُنْتُ فِي الْإِسْلَامِ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَصَدَّقْنَاهُ. فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ رَأَيْتَ اللَّهَ؟ فَيَقُولُ: مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَرَى اللَّهَ. فَيُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قبل النَّارِ، فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَا وَقَاكَ اللَّهُ، ثُمَّ يُفْرَجُ لَهُ فرجة قِبَلَ الْجَنَّةِ، فَيَنْظُرُ إِلَى زَهْرَتِهَا وَمَا فِيهَا، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ، وَيُقَالُ لَهُ: عَلَى الْيَقِينِ كُنْتَ، وَعَلَيْهِ مُتَّ، وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَيُجْلَسُ الرَّجُلُ السُّوءُ فِي قَبْرِهِ فَزِعًا مَشْعُوفًا، فَيُقَالُ لَهُ: فِيمَ كُنْتَ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، فَيُقَالُ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فَيَقُولُ: سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ قَوْلًا فَقُلْتُهُ، فَيُفْرَجُ لَهُ قِبَلَ الْجَنَّةِ، فَيَنْظُرُ إِلَى زَهْرَتِهَا وَمَا فِيهَا، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَا صَرَفَ اللَّهُ عَنْكَ، ثُمَّ يُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ إلى النَّارِ، فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ، عَلَى الشَّكِّ كُنْتَ، وَعَلَيْهِ مُتَّ، وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ"

حكم الحديث

·       إسناده صحيح

·       [حكم الألباني]صحيح

شرح الحديث:

(عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الميت) أي: إن جنس الميت؛ فاللام فيه للجنس (يصير) ويرجع (إلى القبر، فيجلس) بالبناء للمفعول؛ من أجلس الرباعي، أو على البناء للفاعل، من جلس الثلاثي (الرجل الصالح) وكذا المرأة الصالحة؛ وهو المراعي لحقوق الله وحقوق العباد.

(في قبره غير فزع) بنصب (غير) على الحالية، وكسر زاي (فزع) أي: حالة كونه غير خائف (ولا مشعوف) من الشعف؛ وهو شدة الفزع حتى يذهب بالقلب (ثم يقال له) أي: لذلك الرجل: (فيم كنت؟ ) أي: في أي دين كنت وعشت في الدنيا؟ (فيقول) الرجل في جواب سؤاله: (كنت) وعشت (في) دين (الإسلام) والتوحيد (فيقال له) ثانيًا: (ما هذا الرجل) المشهور بين أظهركم؟ ولا يلزم منه الحضور، وترك ما يُشْعِرُ بالتعظيم؛ لئلا يصير تلقينًا وهو لا يناسب موضع الاختبار.

و(ما) اسم استفهام مبتدأ، و (هذا الرجل) خبره؛ أي: ما وصفه ونعته، أو ما اعتقادك فيه (فيقول) الرجل في جواب سؤاله: هو؛ أي: إنَّ هذا الرجل المشهور بيننا اسمه العلم: (محمد) لقبه: (رسول الله صلى الله عليه وسلم) عمله: أنه (جاءنا بالبينات) والمعجزات الدالة على صدقه (من عند الله) تعالى.

وقوله: (رسول الله) يحتمل أن يكون خبرًا لمبتدأ محذوف، أو خبر بعد خبر، والظاهر: أنه خبر بعد خبر لمبتدأ محذوف؛ كما أشرنا إليه في حلنا، والجملة الاسمية: مقول القول، وهو متضمن للجواب عن وصفه وقوله: (جاءنا بالبينات) جملة استئنافية مبينة للجملة الأولى.

(فصدقناه) أي: في جميع ما جاء به من عند الله تعالى.

(فيقال له) أي: لذلك الرجل من جهة الملائكة: (هل رأيت الله) الذي أرسل ذلك الرسول الذي جاءكم بالبينات؟

(فيقول) ذلك الرجل الذي سئل عن الله في جواب سؤاله: (ما ينبغي لأحد) من المخلوق ولا يليق به (أن يرى الله) عز وجل في الدنيا، ويبصره ببصره في الدنيا، أو يحيط بكنهه مطلقًا.

(فيفرج له) من الإفراج بالتخفيف، أو بالتشديد من التفريج، وكلاهما على البناء للمفعول؛ أي: يكشف ويفتح له (فُرْجَة) - بضم الفاء، وقيل: بفتحها - وهو مرفوع على النيابة عن الفاعل؛ أي: يفتح الله له فتحة وكوة (قبل النار) - بكسر القاف وبالنصب على الظرفية - أي: قبلها وجهتها (فينظر إليها) أي: إلى النار، حالة كونها (يحطم) ويكسر ويضرب (بعضها بعضًا) من الحطم؛ وهو الكسر؛ أي: يكسر ويغلب ويأكل بعضها بعضًا؛ لشدة تلهبها واتقادها.

وقوله: (بعضًا) بالنصب على الظرفية المكانية.

(فيقال له) أي: لذلك الرجل من جهة الملائكة: (انظر إلى ما) أي: إلى العذاب الذي (وقاك) وسلمك (الله) منه وحفظك بحفظه إياك من الكفر والمعاصي التي تجرك إليه (ثم يفرج) ويفتح اله قبل الجنة) أي: إلى جهة الجنة (فينظر إلى زهرتها) - بفتح الزاي وسكون الهاء - أي: إلى حسنها وبهجتها (وما فيها) أي: وما في الجنة من الحور والقصور وغيرها من الخير الكثير (فيقال له) أي: لذلك الرجل من جهة الملائكة مشيرين له إلى منزل من منازل الجنة: (هذا) المنزل (مقعدك) ومقرك في العقبى.

وقوله: (ويقال له: على اليقين) متعلق بقوله: (كنت) والجملة مستأنفة متضمنة لتعليل ما قبلها؛ والمعنى: هذا المنزل مقعدك في العقبي؛ لأنك كنت في الدنيا على اليقين في أمر الدين، وتقديم الخبر؛ للاهتمام والاختصاص التام.

(وعليه) أي: وعلى اليقين في أمر دينك (مت) - بضم الميم وكسرها - وهذا يدل: على أن من كان على اليقين في الدنيا .. يموت عليه عادة، وكذا في جانب الشك، قاله السندي.

(وعليه) أي: وعلى اليقين في أمر دينك (تبعث) من قبرك؛ يعني: كما تعيش تموت، وكما تموت تحشر (إن شاء الله) تعالى للتبرك، أو للتحقيق، لا للشك.

(ويجلس الرجل السوء) - بفتح السين وضمها - وهو ضد الصالح؛ أي: الرجل الطالح الفاسد (في قبره فزعًا) أي: حزينًا خائفًا (مشعوفًا) أي: مرعوبًا (فيقال له) أي: لذلك الرجل الطالح: (فيم كنت؟ ) أي: في أي دين عشت؟ (فيقول: لا أدري) ولا أعلم ما كنتُ عليه من الدين؛ أي: أو للهيبة نسي ما كان عليه (فيقال له: ما هذا الرجل) المشهور بين أظهركم؟

(فيقول) في جواب سؤاله: (سمعتُ الناس يقولون) فيه (قولًا فقلتُه) أي فقلت في الدنيا ذلك القول الذي قال فيه الناس، ولا أدري ما هو الآن؛ يريد أنه كان مقلِّدًا في دينه للناس، ولم يكن منفردًا عنهم بمذهب، فلا اعتراضَ عليه حقًّا كان ما عليه أو باطلًا، كذا في "المرقاة" (1/ 234).

(فيفرج له قبل الجنة فينظر إلى زهرتها) أي: إلى حسن الجنة وزينتها (و) إلى (ما فيها) من الحور والقصور (فيقال له) تنديمًا له: (انظر إلى ما) أي: إلى نعيم (صَرَف اللهُ) أي: دفعه الله (عنك) وحرمك عنه بالكفر والمعاصي (ثم يفرج) ويفتح (له فرجة) - بضم الفاء - أي: كَوَّةٌ وطاقةٌ (قبل النار) أي: جهة النار (فينظر إليها) أي: إلى النار حالة كونها (يحطم بعضها) ويضرب (بعضًا) آخر منها (فيقال له: هذا) المنزل (مقعدك) ومقرك في العقبى؛ لأنك (على الشك كنت) في دينك (وعليه) أي: وعلى الشك (مت، وعليه) أي: وعلى الشك (تبعث) أي: تحشر يوم القيامة (إن شاء الله تعالى).

‌‌فائدة

وفي قوله: في هذا الحديث: "فيجلس الميت في قبره" دلالة عند الجمهور على أن سؤال الميت وعذابه في القبر يكون لروحه مع الجسد، لا على الروح فقط، وأن هذه الأحاديث تدل عندهم على ثبوت عذاب القبر وسؤاله، وفيه مذاهب ستة:

الأول منها: مذهب الخوارج؛ وهو إنكار عذاب القبر مطلقًا، وبه قال بعض  المعتزلة؛ مثل: ضرار بن عمرو وبشر المريسي ومن وافقهما، وهو قول مردود بالنصوص المتواترة معنىً، وقد فصلها العلامة العيني في "عمدة القاري" (4/ 161 - 162)، والتفتازاني في "شرح المقاصد"، والشريف الجرجاني في "شرح المواقف"، ورد كلهم على ما استدل به المنكرون لعذاب القبر.

والثاني: أن عذاب القبر إنما يقع على الكفار دون المؤمنين، وهو مذهب بعض المعتزلة؛ كالجَيَّاني، حكاه عنهم الحافظ في "الفتح" (3/ 233)، وحديث عذاب القبر لمن كان لا يستبرئ من بوله، ولمن كان يمشي بالنميمة .. يرد عليهم، وكذلك ترد عليهم بعض الأحاديث الأخرى.

والثالث: أن السؤال يقع على الروح فقط، من غير عود الروح إلى الجسد، وهو مذهب ابن حزم وابن هبيرة؛ كما نقل عنهما الحافظ في "الفتح" (3/ 235) وحديث الباب حجة عليهم؛ لأنه لا معنى لإجلاس الروح، وإنما يقع الإجلاس على الجسد.

والرابع: أن السؤال في القبر يقع على البدن فقط، وأن الله يخلق فيه إدراكًا؛ بحيث يسمع ويعلم ويلذ ويألم، وهو قول ابن جرير وجماعة من الكرامية؛ كما نقل عنهم الحافظ.

والخامس: أن الميت لا يشعر بالتعذيب وبغيره إلا بين النفختين، قالوا: وحاله كحال النائم والمغشي عليه، لا يحس بالضرب ولا بغيره إلا بعد الإفاقة، وهذا مذهب أبي الهذيل ومن تبعه، حكاه الحافظ أيضًا، ورد عليه بحديث الباب.

والسادس: مذهب جمهور أهل السنة؛ وهو أنه تعاد الروح إلى الجسد، أو إلى بعضه عند السؤال أو العذاب؛ كما ثبت في الحديث، ولو كان على الروح فقط .. لم يكن للبدن بذلك اختصاص، ولا يمنع ذلك كون الميت قد تفرق أجزاؤه؛ لأن الله قادر على أن يعيد الحياة إلى جزء من الجسد، ويقع عليه السؤال؛ كما هو قادر على أن يجمع أجزاءه.

قال الحافظ: والحامل للقائلين بأن السؤال يقع على الروح فقط .. أن الميت قد يشاهد في قبره حال المسألة لا أثر فيه؛ من إقعاد ولا غيره، ولا ضيق في قبره ولا سعة، وكذلك غير المقبور؛ كالمصلوب، وجوابهم: أن ذلك غير ممتنع في القدرة، بل له نظير في العادة، وهو النائم؛ فإنه يجد لذةً وألمًا لا يدركه جليسه، بل اليقظان قد يدرك ألمًا أو لذةً لما يسمعه أو يفكر فيه، ولا يدرك ذلك جليسه، وإنما أتى الغلط من قياس الغائب على الشاهد، وأحوال ما بعد الموت على ما قبله، والظاهر أن الله تعالى صرف أبصار العباد وأسماعهم عن مشاهدة ذلك وستره عنهم؛ إبقاءً عليهم؛ لئلا يتدافنوا، وليست للجوارح الدنيوية قدرة على إدراك أمور الملكوت، إلا من شاء الله تعالى إدراكه ذلك.

قال الحافظ: وقد ثبتت الأحاديث بما ذهب إليه الجمهور؛ كقوله: (إنه ليسمع قرع نعالهم) وقوله: (تختلف أضلاعه) لضمة القبر، وقوله: (يسمع صوته إذا ضربه بالمطراق) وقوله: (يضرب بين أذنيه) وقوله: (فيقعدانه) وكل ذلك من صفات الأجساد؛ كذا في "الفتح" (3/ 335).

وهذا الحديث انفرد به ابن ماجه، ولكن له شاهد من حديث البراء بن عازب، أخرجه المؤلف بعد هذا الحديث، وأبو داوود مختصرًا ومطولًا، والنسائي في " سننه"، والحاكم في "المستدرك"، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي في إثبات عذاب القبر، وابن أبي شيبة في "مصنفه"، وعبد الله بن أحمد في "السنة"ودرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده، ولأن له شواهد؛ كما بينتها، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة الأول

(59) - 4212 - (4) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ (العبدي البصري، ثقة)، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ (الهذلي البصري ربيب شعبة، ثقة)، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (بن الحجاج، ثقة)، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ (الحضرمي أبي الحارث الكوفي، ثقة)، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ (السلمي أبي حمزة الكوفي، ثقة)، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ()، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}، قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ يُقَالُ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} "

حكم الحديث

·       إسناده صحيح

·       [حكم الألباني] صحيح

شرح الحديث:

(قال) النبي صلى الله عليه وسلم: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (1).

(قال) النبي صلى الله عليه وسلم: وهو توكيد لقال الأول، أو قال البراء؛ كما تدل عليه بعض روايات مسلم: (نزلت) هذه الآية (في عذاب القبر) وسؤاله، فـ (يقال له) أي: للميت بعد الدفن (من ربك؟ ) أي: مالكك ومعبودك (فيقول) المؤمن في جواب سؤاله: (ربي) أي: مالكي ومعبودي هو (الله) الذي لا إله غيره (ونبيي) أي: رسولي الذي آمنت به واتبعته فيما أمرني به ونهاني عنه هو (محمد) بن عبد الله القرشي الهاشمي صلى الله عليه وسلم (فذلك) أي: فمصداق ذلك وشاهده (قوله) أي: قول الله عز وجل في كتابه العزيز: ({يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا}) بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم ({بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}) أي: على القول الحق الثابت؛ - وهي كلمة التوحيد {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بإقرارها واعتقاد معناها {وَفِي الْآخِرَةِ} أي: عند السؤال عنها، قاله الطبري.

وقال العيني: والقول الثابت: هو كلمة التوحيد؛ لأنها راسخة في قلب المؤمن، وقال عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: هو كلمة (لا إله إلا الله)، {وَفِي الْآخِرَةِ}، قال: المسألة في القبر قال القرطبي: والمعنى: أي: يثبتهم في هذه الدار على التوحيد والإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى يميتهم عليها، وفي الآخرة عند المساءلة في القبر؛ كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله .. فهو المقصود، وإن كان من قول البراء .. فهذا لا يقوله أحد من قبل نفسه ورأيه، فهو محمول على أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، وسكت البراء عن رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لعلم المخاطب بذلك، والله تعالى أعلم.

وقد قيل عن البراء أنه قال: هما سؤال القبر وسؤال القيامة؛ يعني: يرشد الله المؤمن فيهما إلى الصواب، ويصرف الكافر عن الجواب. انتهى من "المفهم".

قال العيني في "عمدة القاري" (4/ 2228): فإن قلت: المساءلة هل هي عامة لجميع الأمم أم خاصة بأمته صلى الله عليه وسلم؟

فذهب الحكيم الترمذي إلى أنها تختص بهذه الأمة، وقال: كانت الأمم قبل هذه الأمة تأتيهم الرسل، فإن أطاعوا .. فذاك، وإن أبوا .. اعتزلوهم وعوجلوا بالعذاب، فلما أرسل الله محمدًا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين .. أمسك عنهم العذاب، وقبل الإسلام ممن أظهره، سواء أسر الكفر أم لا، فلما ماتوا .. قيض الله لهم فتان القبر؛ ليستخرج سرهم بالسؤال، وليميز الله الخبيث من الطيب، ويثبت الذين آمنوا ويضل الظالمين.

ثم قال العيني: ويؤيده حديث زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه مرفوعًا "إن هذه الأمة تبتلى في قبورها … " الحديث أخرجه مسلم.

ويؤيده: قول الملكين: (ما تقول في هذا الرجل محمد؟ ) وحديث عائشة أيضًا عند أحمد بلفظ: (وأما فتنة القبر .. ففيَّ يفتنون، وعنِّي يسألون).

وذهب ابن القيم إلى عموم المساءلة، وقال: ليس في الأحاديث نفي المساءلة عمن تقدم من الأمم، وإنما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بكيفية امتحانهم في القبور، لا أنه نفى ذلك من غيرهم، قال: والذي يظهر أن كل نبي مع أمته كذلك، فيعذب كفارهم في قبورهم بعد سؤالهم وإقامة الحجة عليهم؛ كما يعذبون في الآخرة بعد السؤال وإقامة الحجة عليهم.

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: البخاري في كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، وفي كتاب التفسير، باب تفسي {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ … } الآية (1)، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، وأبو داوود في كتاب السنة، باب في المسألة في القبر وعذاب القبر، والترمذي في كتاب التفسير، باب ومن سورة إبراهيم عليه السلام، وقال: حسن صحيح، والنسائي في كتاب الجنائز، باب عذاب القبر، وأحمد في "المسند".

فالحديث في "الكتب الستة" فهو في أعلى درجات الصحة؛ لأنه من المتفق عليه، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة الأول.

 

 

4270 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ (الهمداني الكوفي، ثقة) ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ ()، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ(بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري المدني، ثقة ثبت)، عَنْ نَافِعٍ (مولى ابن عمر أبي عبد الله المدني الفقيه العدوي مولاهم، ثقة فقيه مشهور) عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ عُرِضَ عَلَى مَقْعَدِهِ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، يُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى تُبْعَثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (2)

حكم الحديث

·       وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.

·       [حكم الألباني] صحيح.

·       إسناده صحيح.

شرح الحديث:

(عن ابن عمر) رضي الله تعالى عنهما.

 (عن النبي صلى الله عليه وسلم قال) النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات أحدكم) أيها الناس .. (عرض) ذلك الأحد واطلع وقرب (على مقعده) ومقره ومنزله في الآخرة (بالغداة) أي: في أول النهار (والعشي) أي: في آخر النهار (إن كان) ذلك الأحد (من أهل الجنة .. فـ) يعرض عليه (من) منازل (أهل الجنة، وإن كان من أهل النار .. فـ) يعرض عليه (من) منازل (أهل النار)، فـ (يقال) له: (هذا) المقعد الذي عُرِضَ عليه (مقعدك حتى) أي: حين (تُبْعَث يوم القيامة).

واختلف هل العرض على مقعده مرةً واحدةً بالغداة، ومرة أخرى بالعشي فقط إلى يوم البعث، أو كل غداة وكل عشي من الدنيا؟

احتمالان، والأول مؤيد بحديث أنس عند البخاري، وموافق للأحاديث الواردة في سياق المسألة، والله أعلم.

ويكون عرض المقعدين على كل واحد من المؤمن المخلص، والكافر والمؤمن المخلِّط؛ لأنه يدخل الجنة، فيرى مقعده في الجنة، فيقال: هذا مقعدك وستصير إليه بعد مجازاتك بالعقوبة على ما تستحق.

قال القرطبي: قوله: "إذا مات أحدكم .. عرض عليه مقعده … " إلى آخره .. هذا منه صلى الله عليه وسلم إخبار عن غير الشهداء؛ فإنه قد تقدم أن أرواحهم في حواصل طير تسرح في الجنة وتأكل من ثمارها، وغير الشهداء إما مؤمن، وإما غير مؤمن؛ فغير المؤمن هو الكافر، فهذا يرى مقعده من النار غدوًا وعشيًّا، وهذا هو المَعْنِيُّ بقوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (1).

فأما المؤمن .. فإما ألا يدخل النار، أو يدخلها بذنوبه؛ فالأول: يرى مقعده من الجنة لا يرى غيره رؤية خوف.

وأما المؤاخذ بذنوبه .. فله مقعدان؛ مقعد في النار زمن تعذيبه، ومقعد في الجنة بعد إخراجه، فهذا يقتضي أن يعرضا عليه بالغداة والعشي، إلا إن قلنا: إنه أراد بأهل الجنة: كل من يدخلها كيف كان، فلا يحتاج إلى ذلك التفسير، والله أعلم.

وهذا الحديث وما في معناه يدل على أن الموت ليس بعدم، وإنما هو انتقال من حال إلى حال، ومفارقة الروح للجسد، ويجوز أن يكون هذا العرض على الروح وَحْدَهُ، ويجوز أن يكون عليه مع جزء من البدن، والله أعلم بحقيقة ذلك.

والمراد بالغداة والعشي: وقتهما، وإلا .. فالموتى لا صباح عندهم ولا مساء. انتهى من "المفهم".

قال النووي: والغرض من ذكر هذه الأحاديث: إثبات عذاب القبر وهو مذهب أهل السنة، وقد تظاهرت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية جماعة من الصحابة في مواطن كثيرة، ولا يمتنع في العقل أن يعيد الله تعالى الحياة في جزء من الجسد ويعذبه، وإذا لم يمنعه العقل وورد الشرع به .. وجب قبوله واعتقاده. انتهى بأدنى تصرف وتفصيل فيه.

قال السندي: قوله: "عُرِضَ على مقعدِه" هو من باب القلب، والأصل: عرض عليه مقعده، ومثله في القلب قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} (1).

قوله: "فمن أهل الجنة" أي: فيعرض عليه من مقاعد الجنة، أو فمقعده من مقاعد الجنة.

قوله: "فيقال: هذا مقعدك" يحتمل أن الإشارة إلى القبر؛ أي: القبر مقعدك إلى أن يبعثك الله إلى المقعد المعروض عليك، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى مقعدك المعروض، و (حتى) غاية للعرض؛ أي: يعرض عليك إلى البعث، ثم بعد البعث تدخله، ثم هذا القول يعم أهل الجنة والنار؛ والمراد: يقال لكل أحد من الفريقين هذا الكلام. انتهى منه.

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: البخاري في مواضع كثيرة؛ منها: في الجنائز، باب الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وأبو داوود في كتاب السنة، باب عذاب القبر، والترمذي في كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة إبراهيم، والنسائي من كتاب الجنائز، باب عذاب القبر، وأحمد في "المسند".

فهذا الحديث في أعلى درجات الصحة؛ لأنه من المتفق عليه، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة الأول

 

4271 - حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ (بن سهل الهروي الأصل ثم الحدثاني أبو محمد الأنباري، صدوق في نفسه إلا أنه عمي فصار يتلقن ما ليس من حديثه فأفحش ابن معين القول فيه)، أَخبَرنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ (بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحي أبو عبد الله المدني الفقيه إمام دار الهجرة رأس المتقنين، وكبير المتثبتين)، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ (الزهري المدني، ثقة متقن ثبت)، عَنْ عَبْدِ الرحمن بْنِ كَعْبٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ

أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يُحَدِّثُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يُبْعَثُ".

حكم الحديث

ü    حديث صحيح، سويد بن سعيد متابع، وباقي رجاله ثقات. ابن شهاب: هو محمَّد بن مسلم الزهري

ü    [حكم الألباني] صحيح

شرح الحديث:

(كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنما نسمة) هي - بفتحتين -: الروح؛ والمراد: روح (المؤمن) الشهيد؛ كما جاء في بعض روايات الحديث. انتهى "س".

وقال ابن عبد البر في "التمهيد" (11/ 58): أما قوله: "نسمة المؤمن" فهي ها هنا: الروح، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: "حتى يرجعه الله إلى جسده يوم بعثه" وأصل هذه اللفظة؛ أعني: (النسمة): الإنسان بعينه، وإنما قيل للروح: نسمة - والله أعلم - لأن حياة الإنسان بروحه، فإذا فارقته .. عدم أو صار كالمعدوم. انتهى.

قلت: وما ذهب إليه السندي من أن المراد بالنسمة هنا: نسمة الشهيد دون غيره .. هو الذي ذهب إليه أبو عمر في "التمهيد" (11/ 64) ورجحه.

وقد نقل ابن القيم في "الروح" كلامه، ورده، ورجح أن الحديث يعم كل مؤمن الشهيد وغير الشهيد.

قوله: "إنما نسمة المؤمن" مبتدأ، خبره: (طائر) أي: مُشَكَّلٌ بصورة طائر (يعلق) - بضم اللام وبالتخفيف - من باب كرم؛ أي: نسمته مشكلة بصورة طائر يعلق ويأكل ويرتع (في شجر الجنة) أي: من ثمار شجر الجنة (حتى يرجع إلى جسده يوم يبعث) الله ذلك الروح؛ أي: يوم أراد الله بعثه وإدخاله الجنة.

قوله: (طائر) ظاهره أن الروح يتشكل ويتمثل بأمر الله تعالى طائرًا؛ كتمثل الملك بشرًا، ويحتمل أن المراد: أن الروح يدخل في بدن طائر؛ كما في بعض الروايات.

قال السيوطي في "حاشية أبي داوود": إذا فسرنا الحديث بأن الروح يتمثل طائرًا .. فالأشبه أن ذلك في القدرة على الطيران فقط، لا في صورة الخلقة؛ لأن شكل الإنسان أفضل الأشكال.

قلت: هذا إذا كان الروح الإنساني له شكل في نفسه، ويكون على شكل الإنسان.

وأما إذا كان في نفسه لا شكل له، بل يكون مجردًا، أو أراد الله تعالى أن يتشكل ذلك المجرد لحكمة ما .. فلا يبعد أن يتشكل من أول الأمر على شكل الطائر وأما على الثاني .. فقد أورد الشيخ علم الدين القرافي أنه لا يخلو إما أن يحصل للطير الحياة بتلك الأرواح أو لا، والأول: عين ما تقوله التناسخية، والثاني: مجرد حبس للأرواح وتسجن.

وأجاب السبكي باختيار الثاني، ومنع كونه حبسًا وتسجنًا؛ لجواز أن يقدر الله تعالى في تلك الأجواف السرور والنعيم ما تجده في الفضاء الواسع، ولهذا الكلام بسط ذكرته في "حاشية أبي داوود".

قوله: "إنما نسمة المؤمن طائر يعلق" - بفتح الياء وضم اللام - من باب ظرف؛ أي: مشكل بطائر يأكل ويرتع (في شجر الجنة حتى يرجع) إلى صورة (جسده) الأصلي من الإنسانية (يوم يبعث) من قبره ويدخل الجنة.

وقوله: "يعلق" أي: يأكل، وهو في الأصل للإبل إذا أكلت العضا، يقال: علقت الناقة تعلق علوقًا، فنقل إلى الطير، فاستعمل فيه. انتهى "س".

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: الترمذي في فضائل الجهاد (1641)، والنسائي في الجنائز (2073)، وأحمد في "المسند"، ومالك في الجنائز، قال البوصيري في "الزوائد": هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، إلا أنه موقوف، وقد تقدم للمؤلف في الجنائز، باب ما جاء فيما يقال عند المريض إذا حضر رقم (411)، حديث رقم (1422).

قال عبد الباقي: (تعلق) - بضم اللام، وقيل: أو بفتحها - ومعناه: تأكل وترعى؛ كالإبل من العضاه.

ودرجة هذا الحديث: أنه صحيح بغيره وإن كان سنده حسنًا، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة الأول.

 

4272 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَفْصٍ الْأُبُلِّيُّ (بن عمر بن دينار (الأبلي) - بضم الهمزة والموحدة وتشديد اللام - أبو بكر الأودي، صدوق)، أخبرنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ(بن سالم الأسدي الكوفي المقري الحناط - بمهملة ونون - مشهور بكنيته، والأصح أنها اسمه، وقيل: اسمه محمد أو عبد الله أو سالم أو شعبة أو رؤبة أومسلم أو خداش أو مطرف أو حماد أو حبيب، أقوال عشرة، ثقة عابد إلا أنه لما كبر .. ساء حفظه، وكتابه صحيح)، عَنْ الْأَعْمَشِ (سليمان بن مهران , الأعمش ثقة)، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ (طلحة بن نافع الواسطي الإسكاف نزيل مكة، صدوق)

عَنْ جَابِرٍ (بن عبد الله بن عمرو الأنصاري الخزرجي الصحابي الجليل رضي الله تعالى عنهما)، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: "إِذَا دَخَلَ الْمَيِّتُ الْقَبْرَ مُثِّلَتْ له (2) الشَّمْسُ عِنْدَ غُرُوبِهَا، فَيَجْلِسُ يَمْسَحُ عَيْنَيْهِ وَيَقُولُ: دَعُونِي أُصَلِّي" (3)

حكم الحديث

*   وحكمه: الحسن؛ لأن فيه أبا بكر بن عياش الأبلي، وهو مختلف فيه إن كان أبو سفيان سمع عن جابر بن عبد الله.

*   إسناده حسن كما قال البوصيري في "الزوائد"، إسماعيل بن حفص الأبلي روى عنه جمع وذكره ابن حبان في الثقات.

*   [حكم الألباني] حسن

شرح الحديث:

(عن النبي صلى الله عليه وسلم) وهذا السند من خماسياته، (قال) النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل الميت القبر .. مثلت) - بالبناء للمفعول - أي: صورت له (الشمس) كأنها (عند غروبها، فيجلس) الميت حالة كونه (يمسح عينيه) على هيئة المستيقظ من النوم؛ لأن النوم أخو الموت (ويقول) للملكين: (دعوني) أي: اتركوا كلامي والسؤال مني.

وقوله: (أصلي) مجزوم في جواب الطلب، والياء للإشباع، أو أعطي المعتل حكم الصحيح، وقيل: استئناف؛ أي: أنا أريد أن أصلي.

والمعنى: أن من كان راسخًا في أداء الصلاة، مواظبًا عليها في الدنيا .. يظن أنه بعد؛ أي: الآن في الدنيا، ويؤدي ما عليه من الفرائض، ويشغله عن قيامه بعض أصحابه، فيقول: دعوني أنا أريد الصلاة.

وذكر الغروب يناسب الغريب؛ فإنه أول منزل ينزله عند الغروب.

وهذا الحديث انفرد به ابن ماجه، ودرجته: أنه حسن؛ لكون سنده حسنًا، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة الأول

 



[1] [حكم الألباني]

صحيح

[2] «سنن ابن ماجه» (5/ 333 ت الأرنؤوط):

بَابُ ذِكْرِ الْحَوْضِ

أحدث أقدم