بَابُ ذِكْرِ الْحَوْضِ

بَابُ ذِكْرِ الْحَوْضِ

 (14) - (1512) - بَابُ ذِكْرِ الْحَوْضِ

4301 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ   (العبسي الكوفي) ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ    (بن الفرافصة العبدي الكوفي، ثقةٌ ثبتٌ) ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا،(بن أبي زائدة خالد بن ميمون الهمداني الوادعي أبو يحيى الكوفي، ثقةٌ) حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ   (بن سعد بن جنادة العَوْفي - بفتح المهملة وسكون الواو - الجدلي - بفتحتين - الكوفي أبو الحسن، صدوق يخطئ كثيرًا، وكان شيعيًّا مدلسًا)

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "إِنَّ لِي حَوْضًا مَا بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَبْيَضَ مِثْلَ اللَّبَنِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ، وَإِنِّي لَأَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (1)

حكم الحديث :

v  صحيح لغيره، وهذا إسناد ضعيف لضعف عطية، وهو ابن سعد العوفي. زكريا: هو ابن أبي زائدة. وهو في "مصنف ابن أبي شيبة" 11/ 453 و 13/ 146، ومن طريقه أخرجه عبد بن حميد (904)، وابن أبي عاصم في "السنة" (723)، وأبو يعلى (1028) ويشهد للقطعة الأولى منه أحاديث الباب الآتية بعده. ويشهد لقوله: "إني لأكثرُ الأنبياء تبعًا يومَ القيامة" حديث أنس عند مسلم (196)

v  [تعليق محمد فؤاد عبد الباقي] في الزوائد في إسناده عطية العوفي وهو ضعيف.

v  [حكم الألباني] صحيح

شرح الحديث :

(عن أبي سعيد الخدري) رضي الله تعالى عنه.

وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الضعف؛ لأن فيه عطية العوفي، وهو متفق على ضعفه، ولكن الحديث صحيح؛ كما سيأتي قريبًا.

(أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن لي حوضًا) واسعًا جدًّا، قدر سعة ما بين نواحيه بمقدار (ما بين الكعبة) المشرفة شرفها الله تعالى بكثرة زوارها (و) بين (بيت المقدس) وقوله: (أبيض) صفة لـ (حوضًا).

وقوله: (مثل اللبن) صفة لأبيض؛ أي: أبيض مماثل اللبن ومشابهه في بياضه، لا كمثل المنورة؛ لأن بياضه قانع، ولا كالنيلة؛ لأن بياضها رمادي (آنيته) أي: الأواني التي يشرب بها منه مثل (عدد النجوم) في السماء الصاحية في الليلة المظلمة (و) إنما أعطيت حوضًا واسعًا مثل ما ذكرته؛ لأن الشأن (إني لأكثر الأنبياء) كلهم (تبعًا يوم القيامة) لأن كثرة التبع تقتضي كثرة الشربة منه، والجملة تعليلية.

والأصل في الحوض: قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (1)، قال في "القاموس": الحوض معروف؛ من حاض الماء؛ إذا جمعه، ومنه: حاضت المرأة؛ إذا سأل دمها.

وقال في "الصحاح": الحوض واحد الأحواض والحياض، وحضت أحوض حوضًا، واستحوض الماء، إذا اجتمع؛ والمُحَوَّض - بالتشديد - شيء كالحوض يجعل للنخلة تشرب منه.

وقال ابن قرقول: والحوض: حيث تستقر فيه المياه؛ أي: تجتمع فيه؛ لتشرب منها الإبل. انتهى.

والمراد به هنا: الحوض الذي يكون للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم القيامة؛ كما تجيء صفاته في الأحاديث قال القرطبي في "المفهم": مما يجب على كلّ مكلف أن يعلمه ويصدق به أن الله تعالى قد خَصَّ حبيبه محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحوض المصرح باسمه وصفته وشرابه في الأحاديث الصحيحة الشهيرة التي يحصل بمجموعها العلم القطعي؛ إذ روي ذلك عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الصحابة ما ينيف على الثلاثين؛ منهم في "الصحيحين" ما ينيف على العشرين، وفي غيرهما بقية ذلك مما صح نقله، واشتهرت رواته، ثم رواه عن الصحابة المذكورين من التابعين أمثالهم ومن بعدهم أضعاف أضعافهم، وهلم جرأ، وأجمع على إثباته السلف، وأهل السنة من الخلف.

وأنكره طائفة من المبتدعة والخوارج وبعض المعتزلة، وممن كان ينكره: عبيد الله بن زياد؛ أحد أُمراء العراق لمعاوية وولده.

وهذا الحديث انفرد به ابن ماجة، ودرجته: أنه صحيح؛ لأن له شواهد في "الصحيحين" وغيرهما، وإن كان سنده ضعيفًا؛ لما تقدم، فهذا الحديث: صحيح بغيره، وسنده ضعيف، وغرضه: الاستدلال به على الترجمة

 

 

 

4302 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ (أخو أبي بكر بن أبي شيبة، ولكنه أكبر منه بسنتين، ثقةٌ) قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ (القرشي الكوفي قاضي الموصل، ثقةٌ له غرائب بعدما أضر) ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ  (الأشجعي الكوفي، ثقةٌ) ، عَنْ رِبْعِيٍّ (العبسي، أبي مريم الكوفي، ثقةٌ عابد مخضرم، من الثانية) ، عَنْ حُذَيْفَةَ (بن اليمان، واسم اليمان: حسيل - مصغرًا - العبسي، حليف الأنصار الصحابي الفاضل، صاحب سر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ حَوْضِي لَأَبْعَدُ مِنْ أَيْلَةَ إِلَى عَدَنَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النُّجُومِ، وَلَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَذُودُ عَنْهُ الرِّجَالَ، كَمَا يَذُودُ الرَّجُلُ الْإِبِلَ الْغَرِيبَةَ عَنْ حَوْضِهِ» ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَعْرِفُنَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ، مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ لَيْسَتْ لِأَحَدٍ غَيْرِكُمْ»

حكم الحديث :

v  [حكم الألباني] صحيح

v   

شرح الحديث :

وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.

(قال) حذيفة: (قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن حوضي) أي: إن بعد ما بين طرفي حوضي (أبعد) أي: أزيد (من) بعد ما بين (أيلة) وأطرافها (إلى عدن) وأيلة - بفتح الهمزة وسكون التحتية -: هي بلدة على الساحل من آخر بلاد الشام مما يلي بحر اليمن؛ والعدن - بفتحتين - يصرف ولا يصرف؛ وهو آخر بلاد اليمن مما يلي بحر الهند.

(و) أقسمت لكم بالإله (الذي نفسي) وروحي (بيده) المقدسة (لآنيته)

جمع إناء؛ أي: ولظروفه من كيزانه وأباريقه وأكوابه وأدلائه لـ (أكثر) أي: لأزيد كثرة (من) كثرة (عدد النجوم) في السماء المصحية في الليلة المظلمة (ولهو) أي: ولبياض حوضي (أشد) أي: أزيد (بياضًا من) بياض (اللبن) الخاثر (و) لحلاوة حوضي (أحلى) أي: أزيد حلاوة (من) حلاوة (العسل) المصفى (و) أقسمت لكم بالإله (الذي نفسي) وروحي (بيده) المقدسة (إني لأَذُود) نَّ وأدفعَنَّ (عنه) أي: عن ورودِ حوضي وشُرْبِه (الرجالَ) والجماعة من غير أمتي في الدنيا ذودًا (كما يذود) أي: ذودًا ودفعًا كذود (الرجل) صاحب الإبل الشاربة عن ازدحام غيرها إياها عند شربها الماء.

وقوله: (الإبل الغريبة) وهي الإبل التي ليس معها صاحبها؛ أي: كما يذود صاحب الإبل الشاربة الإبل الغريبة التي ليس معها صاحبها (عن حوضه) لئلا تزدحم على إبله الشاربة وقت شربها (قيل) أي: قال بعض الحاضرين عنده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما قص هذا الحديث، ولم أر من عين اسم ذلك السائل في شيء من طرق الحديث: (يا رسول الله؟ أتعرفنا؟ ) أي: هل تعرف يومئذ أشخاصنا؛ من يستحق الشرب منه ومن لا يستحقه من سائر الأمم الآخرين؟

فـ (قال) رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جواب سؤال السائل: (نعم) أعرفكم من يستحقه ومن لا يستحقه من غير أمتي؛ أي: أطردهم حتى لا يزاحموا أمتي، أو لأنهم لا يستحقون ذلك؛ لأنهم بدلوا ديني فخرجوا عن أمتي.

قوله: "لأذودن عنه الرجال" أي: من الأمم الآخرين؛ أي: أطردهم حتى لا يزاحموا أمتي، أو لأنهم لا يستحقون ذلك؛ لأنهم بدلوا ديني، وهذا يدلُّ على أن أمته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يميزون عن غيرهم بعلامة يعرفون بها؛ كالغرة والتحجيل، فلذلك قالوا: أتعرفنا؛ أي: لأذودن عن حوضي؛ صيانةً له من المشاركة فيه والمخالطة بغيرهم.

قوله: (قال: نعم) أي: نعم، أعرفكم عن غيركم بعلامة تميزكم عن غيركم؛ لأنكم (تردون علي) - بكسر الراء - من الورود؛ أي: تمرون علي (غرًّا) أي: حال كونكم غرًّا جمع الأغر؛ وهو من في جبهته بياض (محجلين) - بتشديد الجيم المفتوحة - جمع محجل؛ وهو الذي في يديه ورجليه بياض (من أثر الوضوء) - بضم الواو - أي: من أثر استعمال ماء الوضوء في أعضائه (ليست) تلك الصفة (لأحد غيركم) أي: غير أمتي.

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: الإمام مسلم في كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، وابن حبان.

ودرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده وللمشاركة فيه، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي سعيد الخدري.

* * *

في هذا الحديثِ أنَّ المُسلِمينَ مِن أمَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ يَتميَّزُون عن غَيرِهِم مِنَ الأُمَمِ يومَ القيامةِ بالنُّورِ في وُجوهِهم وأيديهم مِن أثَرِ الوضوءِ، فيَرِدونَ على حَوضِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ الواسِعِ الذي يَقولُ عنه: "إنَّ حَوضِي لأبعَدُ مِن أيلَةَ مِن عدَنٍو"أَيلَةُ" مدينةٌ مِن بِلادِ الشَّامِ على ساحِلِ البَحرِ، و"عدنٌ" مدينةٌ ببِلادِ اليَمَنِ، وهوَ كِنايةٌ عن عِظَمِ طُولِهِ واتِّساعِهِ، ثمَّ يقولُ: "والذي نَفسي بيدِهِ، إنِّي لأَذودُ عَنهُ الرِّجالَ"، أي: أطرُدُ عنه رجالَ الأُمَمِ الأُخرَى، "كما يَذودُ الرَّجلُ الإبلَ الغَريبةَ عِن حَوضِهِ"، أي: كما يَطرُدُ الرَّجلُ الإبِلَ التي لا يَعرِفُ صاحبَها عَنِ الحَوضِ الذي تَشرَبُ منه إبلُهُ، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، وتَعرِفُنا؟ قالَ: "نعَم؛ تَرِدُونَ عليًّ غرًّا مُحجَّلينَ"، و"الغُرَّة": بياضٌ في الوَجهِ والرَّأسِ، و"التَّحْجيلُ": بياضٌ في اليَدَينِ والرِّجلَينِ، وهَذا البَياضُ في هذه المواضِعِ مِن آثارِ الوُضوءِ، أي: مِن آثارِ الماءِ المُستعمَلِ في الوضوءِ، وهذِهِ النِّعمَةُ ليسَتْ لأحَدٍ غَيرِكم؛ فهذِهِ العَلامَةُ خاصَّةٌ بأمَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ.

 

4303 - حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ  أبو علي الدِّمَشْقِيُّ (السلمي ثقةٌ) قَالَ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ (بن حسان الأسدي الدمشقي الطاطري - بمهملتين مفتوحتين - ثقةٌ) قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُهَاجِرٍ (الأنصاري الشامي أخو عمرو، ثقةٌ) قَالَ: حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ سَالِمٍ الدِّمَشْقِيُّ (اللخمي ثقةٌ) قَالَ: نُبِّئْتُ عَنْ أَبِي سَلَّامٍ الْحَبَشِيِّ (ممطور الأسود (الحبشي) الأعرج الدمشقي، ويقال: هو النوبي، وقيل: إن الحبشي نسبة إلى حي من حمير، فهو عربي يمني. روى عنه: حَفِيدَاهُ؛ زيدٌ ومعاويةُ ابْنا سلَّام، ثقةٌ يرسل)، قَالَ: بَعَثَ إِلَيَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَأَتَيْتُهُ عَلَى بَرِيدٍ، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَيْهِ، قَالَ: لَقَدْ شَقَقْنَا عَلَيْكَ، يَا أَبَا سَلَّامٍ فِي مَرْكَبِكَ، قَالَ: أَجَلْ، وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: وَاللَّهِ، مَا أَرَدْتُ الْمَشَقَّةَ عَلَيْكَ، وَلَكِنْ حَدِيثٌ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُ بِهِ، عَنْ ثَوْبَانَ، مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْحَوْضِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ تُشَافِهَنِي بِهِ، قَالَ: فَقُلْتُ: حَدَّثَنِي ثَوْبَانُ، مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ حَوْضِي مَا بَيْنَ عَدَنَ إِلَى أَيْلَةَ، أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، أَكَاوِيبُهُ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَأَوَّلُ مَنْ يَرِدُهُ عَلَيَّ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ، الدُّنْسُ ثِيَابًا، وَالشُّعْثُ رُءُوسًا، الَّذِينَ لَا يَنْكِحُونَ الْمُنَعَّمَاتِ، وَلَا يُفْتَحُ لَهُمُ السُّدَدُ» قَالَ: «فَبَكَى عُمَرُ حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ» ، ثُمَّ قَالَ: «لَكِنِّي قَدْ نَكَحْتُ الْمُنَعَّمَاتِ، وَفُتِحَتْ لِي السُّدَدُ، لَا جَرَمَ أَنِّي لَا أَغْسِلُ ثَوْبِي الَّذِي عَلَى جَسَدِي حَتَّى يَتَّسِخَ، وَلَا أَدْهُنُ رَأْسِي حَتَّى يَشْعَثَ»

حكم الحديث :

v   [شرح محمد فؤاد عبد الباقي] [ش - (بريد) البريد دواب توقف على منازل مرتبة. ويركب عليه الرسول وغيره واحدا بعد واحد وذلك لإسراع السير. (أكاويبه) جمع أكواب جمع كوب. وهو كوز لاعروة له. (السدد) الأبواب جمع سدة. (اخضلت) ابتلت وزنا ومعنى.]

v   [حكم الألباني] صحيح

v    

شرح الحديث :

(قال) أبو سلام: (بعث إلي) أمير المؤمنين (عمر بن عبد العزيز) بن مروان بن الحكم بن أبي العاص الأموي المدني في زمن خلافته، كان ثقةٌ، من الرابعة، مات سنة إحدى ومئة (101 هـ). يروي عنه: (ع).

(فأتيته) أي: فجئته من الشام إلى المدينة راكبًا (على بريد) أي برذون محلوق شعر الذنب؛ لأنه سريع الجري والسير، قال في "النهاية": كلمة فارسية يراد بها في الأصل: البغل، وأصلها: (بريدَه دَمّ) أي: محذوفُ الذنب؛ لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب؛ أي: مخفف شعر ذنبها؛ كأنه علامة لها، فأعربت وخففت، ثم سمي الرسول الذي يركبه بريد. انتهى.

قلت: والمراد هنا: معناه الأصلي. انتهى من "تحفة الأحوذي".

قال السندي: والبريدة دواب توقف على منازل من الطريق مرتبة يركبها من يستعجل في السفر. انتهى.

قال أبو سلام: (فلما قدمت عليه) أي: على عمر بن عبد العزيز .. (قال) عمر: (لقد شققنا) أي: لقد أدخلنا المشقة والتعب (عليك) بأمرنا إياك (يا أبا سلام في مركبك) أي: بركوبك ومجيئك إلينا من الشام إلى المدينة (قال) أبو سلام: (أجل) أي: نعم (والله) لقد أدخلتم المشقة علينا (يا أمير المؤمنين) حيث أمرتنا بالركوب إليكم.

(قال) عمر بن عبد العزيز: (والله؛ ما أردت) وقصدت إدخال (المشقة عليك) بأمرك بالإتيان إلينا من سفر بعيد (ولكن) حملني على أمرك بالإتيان إلينا (حديث بلغني) ووصلني إلي من بعض الناس (أنك تحدث به) أي: بذلك الحديث (عن ثوبان) بن بجدد الهاشمي مولاهم (مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) صحبه ولازمه، ونزل بعده الشام، ومات بحمص سنة أربع وخمسين (54 هـ) رضي الله تعالى عنه. يروي عنه: (م عم).

أي: بلغني أنك تحدث عن ثوبان حديثًا ورد (في الحوض) عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال عمر لأبي سلام: (فأحببت) أي: وددت يا أبا سلام (أن تشافهني) وتحدثني (به) أي: بذلك الحديث مشافهة واصلًا إليَّ من فيك إلى فمي، وأسمعه منك بلا واسطة بيني وبينك، فلذلك أدخلْتُ عليك المشقة بأمرك بالإتيان إلينا فسَامِحوني.

فـ (قال) أبو سلام: (فقلت) لعمر بن عبد العزيز: (حدثني ثوبان مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال).

وهذا السند من سداسياته أو سباعياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات، ولكن جعل المؤلف فيه الانقطاع، والحق أنه لا انقطاع فيه، بل هو موصول؛ كما في رواية الترمذي.

أي: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن) مقدار مسافة (حوضي) مقدار مسافة (ما بين عدن) وما بين ما يليه (إلى أيلة) وعدن - كما مر بفتحتين -: بلدٌ مشهور على ساحل البحر في أواخر سواحل اليمن وأوائلِ سواحل الهند، وهي تُسامِتُ صنعاء، وصنعاء في جهة الجبال.

قال الحافظ: (وأيلة) مدينة كانت عامرة؛ وهي بطرف بحر القلزم من طرف الشام؛ وهي الآن خراب يمر بها الحاج من مصر، فتكون شماليهم، ويمر بها الحاج من غزة، فتكون أمامهم. انتهى.

وفي رواية الترمذي: (إن حوضي من عدن إلى عُمَان البلقاء) بضم العين وتخفيف الميم: قرية باليمن، لا بفتحها وشد الميم؛ فإنها قرية بالشام، وقيل: بل هي المرادة هنا، كذا في "التيسير".

وقال الحافظ: عمان هذه بفتح المهملة وتشديد الميم للأكثر، وحكي بتخفيفها، وتنسب إلى البلقاء؛ لقربها منها.

والبَلْقاءُ - بفتح الموحدة وسكون اللام بعدها قاف وبالمد -: بلدةٌ معروفة من فِلَسْطِين.

هو (أشد بياضًا من) بياض (اللبن، وأحلى) أي: أشد حلاوةً ولذةً (من) حلاوة (العسل) ولذته (أكاويبه) جمع كوب؛ وهو الكوز الذي لا عروة له؛ على ما في الشروح، أو لا خرطوم له؛ على ما في "القاموس" أي: كيزانه (كعدد نجوم السماء) كثرة (من شرب منه) أي: من حوضي (شربةً) واحدةً … (لَمْ يظمأ) ولم يعطش (بعدها) أي: بعد تلك الشربة (أبدًا) أي: آخر ما عليه من الحياة الأبدية.، وشربه من شراب الجَنَّة؛ للتلذذ به لا للعطش (وأول من يرده) أي: يرد الحوض ويأتيه للشرب منه حالة كونه يمر (علي) لأني منتظركم عنده (فقراء المهاجرين).

وقوله: (علي) زيادة للمؤلف، وليست في "الترمذي".

والمراد من المهاجرين: الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيدهم (الدُّنُس ثيابًا) - بضم المهملة والنون وقد يسكن - من الدَّنَس؛ وهو الوسخ؛ أي: المتوسِّخون؛ لقلة غسلها.

(والشُّعْث) - بضم الشين المعجمة وسكون العين المهملة - جمع أشعث - بالمثلثة - أي: المتفرقو الشعر؛ لقلة تعهدها (رؤوسًا) تمييز؛ أي: المتفرق شعور رؤوسهم؛ لعدم تعهدها بالدهن (الذين لا ينكحون) - بفتح الياء وكسر الكاف - أي: الذين لا يتزوجون النساء (المتنعمات) - بكسر العين - من التنعم.

وقيل: هو بضم التحتية وفتح الكاف بصيغة المجهول؛ أي: لو خطبوا المتنعِّمات؛ أي: المتنعمات بجمالهنَّ ومالهنَّ .. لَمْ يجابوا إلى تزويجهن لهم؛ لعدم كفائتهم لهن عند الناس.

(وَلَا يُفتح لهم السُّدَدُ) - بضم السين وفتح الدال الأولى من المهملتين - جمع سُدَّة؛ وهي بابُ الدار، سمي بذلك؛ لأن المَدْخَلَ يَسُدُّ به.

والمعنى: لو دقوا الأبواب واستأذنوا الدخول .. لَمْ يفتح لهم ولم يؤذن لهم في الدخول؛ لحقارتهم عند الناس.

(قال) أبو سلَّام: (فبكى عمر) بن عبد العزيز (حتى اخْضَلَّتْ) وابتلَّتْ، فهو مثله وزنًا ومعنىً (لحيتُه) بدموعه (ثم قال) عمر بن عبد العزيز: (لكني قد نكَحْتُ) وتزوَّجْتُ (المتنعمات وفتحت لي السدد، لا جرم) أي: حقًّا (أني لا أغسل ثوبي الذي على جسدي حتى يَتَّسِخَ) أي: يأخُذَ الوسخَ (وَلَا أدْهن) شَعْرَ (رأسي حتى يَشْعَثَ) أي: حتى يتفرَّق وينتَشِرَ قوله: (لكني قد نكحت المتنعمات) لأنه قد نكح: (فاطمة بنت عبد الملك) وهي بنت الخليفة، وجدها خليفة؛ وهو (مروان) وإخوتها الأربعة: (سليمان ويزيد وهشام ووليد) خلفاء، وزوجها خليفة؛ وهو (عمر) فهذا من الغرائب، وفيها قال الشاعر:

بنت الخليفة والخليفة جدها … أخت الخلائف والخليفة بعلها

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: الترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق، باب ما جاء في صفة الحوض، قال أبو عيسى: وهذا حديث غريب، وأخرجه أحمد والحاكم وصححه.

ودرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده وللمشاركة فيه، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي سعيد الخدري

في هذا الحديثِ يِصِفُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حوضَه الشَّريفَ الذي يُعْطيهِ اللهُ له يومَ القيامةِ، مِنْ حيثُ عِظَمُ مَساحتِهِ، وكَثْرةُ أكوابِهِ وآنيتِهِ، ومَنِ الذين يَرِدونَ عليه؛ فيقولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "حَوْضي" والحُوضُ هو الشَّيءُ أو المكانُ الذي يُجْمَعُ فيها الماءُ، وهذا الحوضُ أَعْطاهُ اللهُ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الآخرةِ، وهذا الحوضُ مِساحتُهُ هي "مِنْ عَدَنٍ" وهي مدينةٌ باليمنِ، إلى "عَمَّانَ البَلْقاءِ" وهي قريةٌ بالشَّامِ.
ثُمَّ أَخَذَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَصِفُ الحوضَ، فقال: "ماؤهُ أَشَدُّ بياضًا مِنَ اللَّبنِ"، أي: إنَّ بياضَ مائهِ يَفوقُ بياضَ اللَّبنِ "وأَحْلى مِنَ العَسَلِ"، أي: وإنَّ طَعْمَه أَشَدُّ حَلاوةً مِنَ العَسَلِ، "وأكاويبُه"، أي: عددُ أكوابِهِ وكيزانِهِ "عددُ نُجومِ السَّماءِ"، أي: في كَثْرتِها، "مَنْ شَرِبَ منه شَرْبَةً"، أي: مَنْ تَناوَلَ منه شَرْبةً واحدةً "لَمْ يَظْمأْ" أي: لم يُصِبْهُ عَطَشٌ "بَعْدَها أبدًا"، أي: بَعْدَ هذه الشَّرْبَةِ أبدًا.
ثُمَّ بيَّنَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ "أوَّلَ النَّاسِ وُرُودًا عليه" أي: أوَّلَ مَنْ يَحْضُرُ الحوضَ ليَشْربَ منه هُمْ "فقراءُ المهاجرينَ" الذينَ هاجَروا مِنْ مَكَّةَ إلى المدينةِ، والذين صِفَتُهم "الشُّعْثُ رؤوسًا"، أي: التي تَفرَّقَ شَعرُ رُؤوسِهِم، "الدُّنُسُ ثِيابًا" أي: المُتَّسِخَةُ ثِيابُهم، "الذين لا يُنْكَحونَ"، رُوِيَ: لا يُنْكَحونَ- بصِيغةِ المجهولِ-، أي: الذين يُمْنعونَ مِنَ الزَّواجِ ويَصُدُّهُم النَّاسُ لِفَقْرِهِمْ، ويَرْفضونَ تَزويجَهُمْ مِنْ "المُتنعِّماتِ"، أي: اللاتي يَعِشْنَ في النَّعيمِ والغِنَى والتَّرَفِ، ويُروَى (لا يَنكِحون) - بفَتح الياءِ وكَسرِ الكافِ-، أي: الذين لا يَتزوَّجونُ المتنعماتِ; لزُهدِهم في اللَّذَّاتِ.
"
ولا يُفْتَحُ لهم السُّدَدُ" وهي الأبوابُ، أي: لا يُهْتَمُّ بهم ولا يُلْتَفَتُ إليهِمْ على وَجْهِ العُمومِ، أو: لا تُفْتَحُ لهم أبوابُ الأمراءِ والسَّلاطينِ؛ لِفَقْرِهِمِ وعَدَمِ وجودِ شَوكةٍ لهمْ مِثْلِ غيرِهِم مِنْ أصحابِ الجاهِ والمالِ؛ وهذا القولُ مِن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لمواساةِ الفقراءِ وتَثبيتِهم على الإيمانِ والإسلامِ، وإعلامِهم بما لهم مِن مكانةٍ وخيرٍ على ذلك في الآخِرَةِ.
وفي الحديث: بيانُ سَعةِ حَوضِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفيه: بيانُ فَضلِ فُقراءِ المهاجِرينَ.

 

4304 - حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ  (بن نصر بن علي الجهضمي البصري، ثقةٌ ثبتٌ طلب للقضاء فامتنع) قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي  (عَلِيُّ بن نَصْر بن علي الجَهْضَمي - بفتح الجيم وسكون الهاء بعدها ضاد معجمة مفتوحة - البصري ثقةٌ) قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ (بن أبي عبد الله سَنْبَر - بمهملة مفتوحة، ثم نون ساكنة ثم موحدة مفتوحة - على وزن جعفر، أبو بكر البصري الدستوائي، ثقةٌ ثبتٌ) ، عَنْ قَتَادَةَ (بن دعامة بن قتادة السدوسي البصري، ثقةٌ) ، عَنْ أَنَسٍ () ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَيْنَ نَاحِيَتَيْ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ، وَالْمَدِينَةِ، أَوْ كَمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ، وَعُمَانَ»

حكم الحديث :

v     [حكم الألباني]صحيح

v     إسناده صحيح. نصر بن علي: هو ابن نصر الجهضمي، وهشام: هو ابن أبي عبد الله الدستوائي، وقتادة: هو ابن دعامة السدوسي.

شرح الحديث :

وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.

(قال) أنس: (قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما بين ناحيتي حوضي) تثنية الناحية؛ وهي الطرف مضافة إلى الحوض؛ أي: ما بين ناحيتي وطرفي حوضي طولًا وعرضًا؛ أي: مسافة ما بين طرفيه (كما بين) أي: كمثل مسافة ما بين (صنعاء) اليمن (والمدينة) المنورة، على من نورها أفضل الصلوات وأزكى التحيات.

(أو) قال أنس أو من دونه: (كما بين المدينة وعمان) - بفتح العين وتشديد الميم - مدينة قديمة بالشام، وحاليًا في الأردن. انتهى "سندي".

واختلاف الطرق في التعبير عن سعة الحوض ليس هو في حديث واحد حتى يكون اضطرابًا يضعف الحديث، وإنما هو أحاديث مختلفة من غير واحد من الصحابة الذين سمعوه في مواطن مختلفة متعددة، فروى كلّ واحد ما سمع، واختلاف عبارته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما هو بحسب ما سنح له من العبارة؛ تقريبًا للأفهام، فذكر ما بين كلّ بلدين من البعد لا على التقدير المحقق لما بينهما، بل إعلام وكناية عن السعة، فبهذا يقع الجمع بين اختلاف هذه المقادير؛ كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنها عدد نجوم السماء) فإنه إنما هو إشارة إلى المبالغة في الكثرة؛ كما قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} (1). انتهى من "الأبي" كما في "القرطبي".

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: الإمام مسلم في كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفاته، وأحمد.

ودرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده وللمشاركة فيه، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي سعيد الخدري.

الحوْضُ مَجمَعُ ماءٍ عظيمٌ يَرِدُهُ المُؤمِنون في عَرَصاتِ القِيامةِ، وهو مِن فضْلِ اللهِ الذي أعطاهُ لنَبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ زِيادةً في إكرامِهِ ولُطفِه به وبأُمَّتِه.

وفي هذا الحَديثِ يُبَيِّنُ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَعَةَ هذا الحَوضِ وعظَمَتَه، فيقولُ: «إنَّ قَدْرَ حَوْضي كما بيْن أَيْلَةَ» وهي مَدينةٌ كانتْ عامرةً بطرَفِ بحْرِ القُلْزُمِ، البحرِ الأحمرِ حاليًّا، مِن طرَفِ الشَّامِ، وهي الآنَ خَرابٌ يمُرُّ بها الحاجُّ مِن مِصرَ فتكون عن شِمالِهم، ويَمُرُّ بها الحاجُّ مِن غَزَّةَ وغيْرِها، فتكونُ أمامَهم، وإليها تُنسَبُ العَقَبةُ المشهورةُ عندَ أهلِ مِصرَ، وصَنعاءُ: مدينةٌ مِنْ مُدنِ اليَمَنِ، وهذا يدُلُّ على أنَّ الحوْضَ كَبيرٌ مُتَّسِعٌ مُتباعدُ الجوانبِ، «وإنَّ فيه مِن الأباريقِ» جَمْعُ إِبريقٍ، وهو: إِناءٌ يُصَبُّ منهُ الماءُ، والمُرادُ بهِ هُنا: الكِيزانُ والأَكوابُ؛ «كعدَدِ نُجومِ السَّماءِ» وهذا بيانٌ لكَثرتِها.
وفي الحَديثِ: إخبارُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن بَعضِ الغيْبِ، وهو مِن عَلاماتِ النُّبوَّةِ.

 

4305 - حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ:

قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يُرَى فِيهِ أَبَارِيقُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ" (2)

حكم الحديث :

v  [حكم الألباني] صحيح

v  إسناده صحيح. خالد بن الحارث روى عن سعيد بن أبي عروبة قبل الاختلاط. = = وأخرجه مسلم (2303) (43) من طريقين عن قتادة، بهذا الإسناد. وأخرجه مسلم (2303) (39)، والترمذي (2610) من طريق الزهري، عن أنس. وهو في "مسند أحمد" (13353)، و"صحيح ابن حبان" (6459)

شرح الحديث :

ثم استشهد المؤلف رابعًا لحديث أبي سعيد الخدري بحديث آخر لأنس رضي الله تعالى عنهما، فقال:

(95) - 4248 - (5) (حدثنا حميد بن مسعدة) بن المبارك السامي - بالمهملة - أو الباهلي البصري، صدوق، من العاشرة، مات سنة أربع وأربعين ومئتين (244 هـ). يروي عنه: (م عم).

(حدثنا خالد بن الحارث) بن عبيد بن سليم الهجيصي أبو عثمان البصري، ثقةٌ ثبتٌ، من الثامنة، مات سنة ست وثمانين ومئة (186 هـ). يروي عنه: (ع).

(حدثنا سعيد بن أبي عروبة) مهران اليشكري مولاهم أبو النضر البصري، ثقةٌ حافظ له تصانيف، لكنه كثير التدليس واختلط، وكان من أثبت الناس في قتادة، من السادسة، مات سنة ست، وقيل: سبع وخمسين ومئة (157 هـ). يروي عنه: (ع).

(عن قتادة قال) قتادة: (قال أنس بن مالك) رضي الله تعالى عنه.

وهذا السند من خماسياته، ودرجته: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.

(قال نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يرى) - بالبناء للمفعول - أي: يرى الناس (فيه) أي: في نواحي حوضي (أباريق المذهب والفضة) جمع إبريق؛ وهو هنا: كاسات يشرب بها منه حالة كونها (كعدد نجوم السماء) كثرةً، ولعل اختلافها في الجنسين؛ لأجل اختلاف مراتب الشاربين بها من الأولياء والصالحين. انتهى من "المرقاة".

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: مسلم في كتاب فضائل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، باب إثبات حوض نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

ودرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده وللمشاركة فيه، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي سعيد الخدري

 

4306 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ أَتَى الْمَقْبَرَةَ فَسَلَّمَ عَلَى الْمَقْبَرَةِ، فَقَالَ: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِكُمْ لَاحِقُونَ" ثُمَّ قَالَ: "وَدِدْنَا أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ؟ قَالَ: "أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانِي الَّذِينَ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِ، وَأَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ مِنْ أُمَّتِكَ؟ قَالَ: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ، أَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهَا؟ " قَالُوا: بَلَى، قَالَ: "فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ" قَالَ: "أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ" ثُمَّ قَالَ: "لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، فَأُنَادِيهِمْ: أَلَا هَلُمُّوا، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ، وَلَمْ يَزَالُوا يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ. فَأَقُولُ: أَلَا سُحْقًا سُحْقًا" (1)

حكم الحديث :

v    [حكم الألباني] صحيح

v      إسناده صحيح

شرح الحديث :

ثم اسشهد المؤلف خامسًا لحديث أبي سعيد الخدري بحديث أبي هريرة رضي الله عنهما، فقال:

(96) - 4249 - (6) (حدثنا محمد بن بشار) بن عثمان العبدي البصري، ثقةٌ، من العاشرة، مات سنة اثنتين وخمسين ومئتين (252 هـ). يروي عنه: (ع) (حدثنا محمد بن جعفر) الهذلي البصري ربيب شعبة، ثقة، من التاسعة، مات سنة ثلاث أو أربع وتسعين ومئة. يروي عنه: (ع).

(حدثنا شعبة) بن الحجاج بن الورد العتكي البصري، ثقة إمام أئمة الجرح والتعديل، من السابعة، مات سنة ستين ومئة (160 هـ). يروي عنه: (ع).

(عن العلاء بن عبد الرحمن) بن يعقوب الحرقي أبي شبل المدني، صدوق ربما وهم، من الخامسة، مات سنة بضع وثلاثين ومئة. يروي عنه: (م عم).

(عن أبيه) عبد الرحمن بن يعقوب الجهني المدني مولى الحرقة، ثقة، من الثالثة. يروي عنه: (م عم).

(عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه.

وهذا السند من سداسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.

(عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتى المقبرة) - بتثليث الباء، والكسر أقلها - وفي موضع القبور خلاف، والظاهر: أنها مقبرة البقيع.

(فسلم على) أهل (المقبرة، فقال) في التسليم عليهم: (السلام عليكم) يا أهل (دار قوم مؤمنين) قال السندي: بنصب (دار) على الاختصاص أو على النداء أو بالجر على البدل من ضمير (عليكم) والمراد: أهل الدار؛ تجوزًا، أو بتقدير مضاف؛ كما أشرنا إليه في الحل (وإنا) معاشر الأحياء (إن شاء الله) تبارك و (تعالى بكم لاحقون) بالدفن في هذه المقبرة، وأتى بالمشيئة تبركًا بها، وعملًا بقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (1).

ولأن المراد: الرفق في تلك المقبرة، أو الموت على الإيمان، وهو مما يحتاج إلى قيد المشيئة بالنظر إلى الجميع. انتهى "سندي".

قال النووي وغيره من العلماء: في إتيانه بالاستثناء مع أن الموت لا شك فيه .. أقوال:

أظهرها: أنه ليس للشك، وإنما هو للتبرك وامتثال أمر الله فيه.

قال أبو عمر: الاستثناء قد يكون في الواجب لا شكًّا؛ لقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} (2)، ولا يضاف الشك إلى الله، وقيل: للتأديب.

وعن أحمد بن يحيى: استثنى الله تعالى؛ ليستثني الخلق فيما لا يعلمون، وأمر بذلك بقوله: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}، ذكره الطيبي.

والثاني: أنه عادة المتكلم يحسن به كلامه.

والثالث: أنه عائد إلى اللحوق في هذا المكان والموت بالمدينة.

والرابع: أن (إن) بمعنى: إذ.

والخامس: أنه راجع إلى استصحاب الأيمان من معه.

والسادس: أنه كان معه من يظن بهم النفاق، فعاد الاستثناء إليهم.

وحكى ابن عبد البر أنه عائد إلى معنى: مؤمنين؛ أي: لاحقون في حال  إيمانٍ؛ لأن الفتنة لا يأمنها أحد، ألا ترى إلى قول إبراهيم الخليل عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} (1)، وقول يوسف عليه السلام: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}؟ ! (2) ولأن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم؛ اقبضني إليك غير مفتون". انتهى.

واستبعد الأبي الثالث بقوله صلى الله عليه وسلم للأنصار: "المحيا محياكم، والممات مماتكم" إلا أن يكون قال ذلك من قبْلُ، كذا في "شرح الموطأ للزرقاني".

(ثم قال) صلى الله عليه وسلم: والله (لوددنا) أي: أحببنا وتمنينا (أنا قد رأينا إخواننا) اللاحقين الذين كانوا الآن في الدنيا إذا صاروا إلى ما صار إليه هؤلاء السابقون في القبور؛ أي: رأينا حالهم ومنازلهم؛ كما رأينا منازل هؤلاء السابقين.

قال الطيبي: فإن قلت: فأي اتصال لهؤلاء المراد بقوله: "لوددنا أنا قد رأينا إخواننا" بذكر أصحاب القبور، فأي علقة بينهم وبين أصحاب القبور؟

قلت: عند تصور السابقين - وهم أصحاب القبور - يتصور اللاحقون، أو كشف له عالم الأرواح، فشاهد جميع أرواح السابقين، فتمنى أن يرى منازل اللاحقين كالسابقين، فقال: والله؛ لوددنا أنا قد رأينا منازل إخواننا اللاحقين الذين بقوا في الدنيا.

(قالوا) أي: قال الحاضرون عنده صلى الله عليه وسلم في تلك المقبرة: (يا رسول الله؛ أولسنا إخوانك؟ ) فـ (قال) لهم في جواب سؤالهم: (أنتم)  أيها الحاضرون (أصحابي) أي: الذين فازوا بصحبتي التي هي أعلى المراتب عند الله تعالى (وإخواني) الذين تمنيت رؤيتهم، فهو مبتدأ، خبره قوله: (الذين يأتون من بعدي) أي: وإخواني الذين عنيتهم بقولي: "أنا قد رأينا إخواننا" هم الذين يأتون ويوجدون من بعدي إلى يوم القيامة (وأنا) أيها السابقون واللاحقون (فرطكم) - بفتحتين - أي: سابقكم إلى الآخرة منتظر لكم (على الحوض) لأسقيكم إياه، وهذا موضع الترجمة.

(قالوا) أي: قال الحاضرون عنده صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله؛ كيف تعرف من لم يأت) ولم يدرك زمنك (من أمتك؟ ) أي: كيف تعرفهم يوم القيامة، ولم ترهم في الدنيا؛ كأنهم فهموا من تمني الرؤية وتسميتهم باسم الإخوة دون الصحبة أنه لا يراهم في الدنيا؛ فإنما يتمنى ما لا يمكن حصوله، ولو حصل اللقاء في الدنيا .. لكانوا أصحابه، وفهموا من قوله: (أنا فرطكم) بعموم الخطاب أنه يعرفهم في الآخرة، فسألوه عن كيفية ذلك؟

فـ (قال) في جواب سؤالهم: (أأرأيتم) أي: أخبروني والخطاب مع كل من يصلح له من الحاضرين أو الرائين (لو أن رجلًا) منكم (له خيل) أي: أفراس (غر) أي: بيض الوجوه (محجلة) أي: بيض الأيدي والأرجل (بين ظهراني) وأوساط (خيل دهم) أي: سود - بضم الدال وسكون الهاء جمع أدهم - من الدهمة؛ وهي السواد.

(بهم) - بضم الموحدة وسكون الهاء - جمع بهيم، قيل: هو الأسود أيضًا، فيكون توكيدًا لفظيًّا بالمرادف، وقيل: الذي لا يخالط لونه لون آخر، سواء كان أسود أو أبيض أو أحمر، بل كان لونه خالصًا عن غيره.

(ألم يكن يعرفها) أي: ألم يعرف خيوله بغرتها وتحجيلها؟ (قالوا) أي: قال الحاضرون في جواب سؤاله: (بلى) يعرفها بعلاماتها من الغرة والتحجيل.

فـ (قال: فإنهم) أي: فإن أمتي (يأتون) أي: يبعثون (يوم القيامة غرًّا محجلين من أثر) ماء (الوضوء) فـ (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا فرطكم) - بفتحتين - أي: سابقكم منتظرًا لكم (على الحوض) أهيئ لكم ما تحتاجون إليه، والخطاب للحاضرين ومن بعد؛ تغليبًا لهم، وسائر الأمم ليسوا كذلك؛ أي: غرًّا محجلين؛ إما لاختصاص الوضوء بهذه الأمة من بين سائر الأمم، وحديث: "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي" إن صح .. لا يدل على وجود الوضوء في سائر الأمم، بل في الأنبياء، أو لاختصاص الغرة والتحجيل بهذه الأمة.

(ثم قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليذادن) - بالنون المشددة مع البناء للمجهول - من الذود؛ وهو الطرد؛ أي: أقسم بالله؛ ليدفعن وليمنعن (رجال) ممن ورد حوضي (عن) شرب (حوضي) أي: تمنعهم الملائكة من شربه (كما يذاد) ويدفع من الحوض (البعير الضال) عن صاحبه من الشرب مع الأبعرة التي عندها مالكها؛ لئلا يضيق عليها (فأناديهم) أي: فأنادي إلى أولئك الرجال المدفوعين عن شرب الحوض، وأقول لهم في ندائي لهم: (ألا) أي: انتبهوا واسمعوا ما أقول لكم أيها الرجال المدفوعون عن الحوض و (هلموا) إلي؛ من هلم - بفتح الميم مشددة - يستوي فيه الجمع والمفرد والمذكر والمؤنث في لغة الحجاز، ومنه قوله تعالى: {وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} (1) وأما في لغة بني تميم .. فتلحقها الضمائر البارزة بحسب من هي مسندة إليه؛ فتقول: هلمَّ وهلمَّا وهلمُّوا وهلمُمْن وهلمي؛ أي: أقبلوا إلي ولا تتولوا على أدباركم.

(فيقال) لي؛ أي: تقول لي الملائكة: اتركهم على حالهم فليرجعوا؛ لأنك لا تعرف ما فعلوا بعد فراقك من الدنيا (إنهم قد بدلوا) وغيروا دينك (بعدك، ولم يزالوا) بعد فراقك (يرجعون) عن دينك (على أعقابهم) أي: على ورائهم (فأقول) أنا بعدما سمعت ذلك من الملائكة: (ألا سحقًا سحقًا) - بضم الحاء وسكونها لغتان - أي: بعدًا بعدًا، ونصبه بتقدير: ألزمهم الله سحقًا؛ أي: طردًا من رحمته، والتكرير للتوكيد، أو سحقهم الله سحقًا؛ أي: أبعدهم الله من رحمته بعدًا.

وقد اختلفت أقوال العلماء في تعيين هؤلاء المطرودين الذين يمنعون من شرب الحوض بعدما ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنجد في ذلك أقوالًا ثلاثة آتية:

الأول: أنهم الذين ارتدوا في زمن أبي بكر الصديق فقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه.

والثاني: أنهم المنافقون الذين كانوا في عهده صلى الله عليه وسلم، فأطلق عليهم لفظ (الأصحاب) نظرًا إلى ظاهر حالهم.

والثالث: أنهم كل من ارتد عن دينٍ أو أحدث فيه ما لا يرضاه الله ولم يأذن فيه .. فهم المطرودون عن الحوض، المبعدون عنه، وأشدهم طردًا من خالف جماعة المسلمين؛ كالخوارج على اختلاف فرقهم، والروافض على تباين ضلالهم، والمعتزلة على أصناف أحوالهم، فهؤلاء كلهم مبدلون لدينهم، وكذا الظلمة المسرفون في الجور والظلم وطمس الحق وقتل أهله وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر والمستخفون بالمعاصي، وفي حديث كعب بن عجرة عند الترمذي: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعيذك بالله يا كعب بن عجرة من أمراء يكونون من بعدي؛ فمن غشيهم في أبوابهم فصدقهم في كذبهم، وأعانهم على ظلمهم .. فليس مني ولست منه، ولا يرد عليَّ الحوض، ومن غشي أبوابهم ولم يصدقهم على كذبهم ولم يعنهم على ظلمهم .. فهو مني وأنا منه، وسيرد عليَّ الحوض) كذا قال القرطبي.

قال ابن عبد البر: كل من أحدث في الدين ما لا يرضاه الله .. فهو من المطرودين عن الحوض، وأشدهم من خالف جماعة المسلمين؛ كالخوارج والروافض وأصحاب الأهواء، وكذلك الظَّلمَةُ المسرفون في الجور وطمس الحق، والمعلنون بالكبائر، وكل هؤلاء يخاف عليهم أن يكونوا ممن عنوا بهذا الخبر. انتهى.

وهذا الحديث مما انفرد به ابن ماجه، ودرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي سعيد الخدري.

* * *

جَعَل اللهُ تَعالَى للمُؤمنينَ سِماتٍ وصِفاتٍ تُميِّزُهم عن غَيرِهم في الآخِرةِ، وبها يَعرِفُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أتباعَه يَومَ القيامةِ، ومِن ذلك أثرُ الوُضوءِ الذي يكونُ نُورًا ظاهرًا على أعضاءِ الوُضوءِ.
وفي هذا الحديثِ يَروي أبو هُريرةَ رَضيَ اللهُ عنه: «أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أتى المَقْبرَةَ»، وهو المكانَ الذي يُدفَنُ فيه، والمُرادُ هنا مَقبَرةُ البَقيعَ، فحَيَّا الأمواتَ وقالَ: «السَّلامُ عَلَيْكمْ دارَ قومٍ مُؤمنينَ، وإنَّا -إنْ شاءَ اللهُ- بِكمْ لاحِقونَ»، أي: أنتم سَبَقتمُ الأحياءَ في الموتِ لانقضاءِ آجالِكم، ونحنُ الأحياءُ سنَلحَقُ بكم -إن شاءَ اللهُ- حين تَنقضي آجالُنا في الدُّنيا، ثم قالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «وَدِدتُ أنَّا قَدْ رَأَيْنا إِخْوَانَنا»، وهذا تَمَنٍّ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأن يرَى ويَلقى إخوانَه فسألَه الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم: «أوَلَسْنا إخْوانَكَ يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ: أنتُمْ أصْحابِي، وإخْوانُنا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ»، وهذا تَوضيحٌ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنَّ مَن رأى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وآمَنَ به فهوَ من أصحابِه، أمَّا مَن لم يَرَه منَ المُسلِمينَ فهُم إخوانُه في الدّينِ والإسلامِ.
فسألَه الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم: كيفَ تَعرِفُ يومَ القيامةِ مَن لم يَأتِ بعدُ من أُمَّتِكَ وأنتَ لم تَرَهُم في الدُّنيا؟ فضَرَبَ لهُمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَثَلًا فقالَ: «أرَأيتَ لو أنَّ رجلًا لهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلةٌ بيْنَ ظَهْرَيْ خَيلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ، ألَا يَعرِفُ خَيْلَهُ؟» والغُرَّةُ: هيَ البياضُ في الوَجهِ، والتَّحجيلُ: هو البَياضُ في الأقدامِ، والخَيلُ البُهمُ الدُّهمُ: السَّوداءُ، والمقصودُ أنَّه إذا اختلَطَت هذه الخُيولُ تَميَّزَ بعضُها من بعضٍ بِبيَاضِ الغُرَّةِ والتَّحجيلِ، فكذَلكَ المُسلِمونَ يوم القيامةِ؛ «فإنَّهمْ يأتونَ غُرًّا مُحَجَّلينَ»، أي: بهم نُورٌ مُضيءٌ على جِباهِهم وأيديهم وأرجُلِهم من أثرِ الوُضوءِ، «وأَنا فرَطُهُمْ على الحَوْضِ»، أي: والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هو سابِقُهُم ومُتقدِّمُهم على الحَوضِ يومَ القيامةِ، وهو حوضُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الذي يَسقي منه الوارِدينَ عليه من أُمَّتِه.
وأخبَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ الملائكةَ سوفَ تُبعِدُ وتَطرُدُ عنِ الحوضِ أُناسًا وهُم مُقبِلونَ ومُتوجِّهونَ إليه، وهم من المسلِمينَ، كما يَمنَعُ ويَطرُدُ صاحبُ الإبلِ الجَمَلَ الذي ليس من إبلِه، وهو يُزاحِمُها في الطَّعامِ والشَّرابِ، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُنادي هؤلاء النَّاسَ ليأتوا إلى الحَوضِ، قَبل أن يعرِفَ لماذا يُطرَدونَ؟ «فيُقالُ: إنَّهم قدْ بدَّلوا بعْدَكَ»، أي: غيَّروا الدِّينَ أو حرَّفوه وانحَرَفوا بعدَك عنِ الحقِّ، فيَقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عندَ ذلك: «سُحقًا سُحقًا»، أي: بُعدًا بُعدًا، وكرَّرَه للتَّأكيدِ، وهُو دُعاءٌ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عليهم بالإبعادِ عن حَوضِه أو عنِ الرَّحمةِ.
وفي الحديثِ: زِيارةُ المقبرةِ، وما يُقالُ عِندَها.
وفيه: حُبُّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لأتباعِه وشَوقُه إليهم.
وفيه: فَضلُ الوُضوءِ.
وفيه: بَيانُ جَزاءِ التَّبديلِ والانحرافِ عن دِينِ اللهِ، وأنَّه سبَبٌ للإبعادِ عن حَوضِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومَ القيامةِ.
وفيه: بيانُ فضلِ إطالةِ الغُرَّةِ والتَّحجيلِ في الوُضوءِ.
وفيه: مَشروعيَّةُ تَمنِّي الخَيرِ، ولقاءِ الفُضَلاءِ، وأهلِ الصَّلاحِ.
وفيه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لا يَعلَمُ الغَيبَ إلَّا ما أطلَعَه عليه اللهُ سُبحانَه.

 

أحدث أقدم